الرثاء

محتويات
  • ١ الرثاء
  • ٢ الرثاء في الشعر العربي
  • ٣ أنواع الرثاء
    • ٣.١ النّدب
    • ٣.٢ التأبين
    • ٣.٣ العزاء
  • ٤ شعر في الرثاء
    • ٤.١ لا تعذليه
    • ٤.٢ بطيبةَ رسمٌ للرسولِ ومعهدُ
    • ٤.٣ رثاء الأندلس
  • ٥ المراجع
الرثاء

ارتبط المعنى اللغوي للرثاء بالميت والبكاء، وهو مصدر للفعل (رثى) فنقول:(رثيت الميت رثياً ورِثاءً ومرثاةً ومرثية) (1)، ويدل الفعل (رثى) في اللغة على التوجّع والإشفاق (2).

ارتبط الرثاء كغيره من الأغراض الأخرى بالقصيدة الشعرية العربية، وفي ذلك يقول ابن فارس: (الراء والثاء والحرف المعتل أُصَيْلٌ على رِقّة وإشفاق. يقال رثَيْتُ لفُلان: رقَقتُ. ومن الباب قولُهم رَثَى الميِّت بشعرٍ. ومن العرب من يقول: رَثَأْت. وليس بالأصل). (3) وهو من أروع فنون الشّعر، وأرقاها، وأكثرها قرباً إلى المُتلقّي.

الرثاء في الشعر العربي

عُرف الرثاء منذ أقدم الشعر الجاهلي حتى الشعر الحديث، مُخلّفاً بذلك ثروة شعرية عظيمة على مرّ العصور التاريخية، وقد كان في نشوء هذا اللون الشعري مشاركات عديدة تنوّعت بين ندب الموتى، وتأبينهم. ومن الطبيعي أن تتفوّق النساء في هذا اللون الشعري لما لهنّ من عاطفة أقوى، وقدرة أجرأ من الرجال في تعبيرهم عن آرائهم؛ فقد قمن بحلق شعورهن، ولطم خدودهن، والإقامة على القبور مدّة طويلة من الزمن.

ومن يتنقّل بين طيّات الشعر يجد صوراً راقيةً من الرثاء فيها تحمل عميق المشاعر من الحزن والألم، واللوعة، والوحدة أحياناً، فقد بكى الشعراء أصدقاءهم، وأفراد عائلاتهم، ورثوا أنفسهم، والملوك والأمراء، والعلماء، ليمتدّ الرثاء ويصل إلى المدن الضائعة، والذي ظهر هذا النوع خاصّةً في فترة سقوط الأندلس. (4)

أنواع الرثاء

يُقسم شعر الرثاء إلى ثلاثة أنواع رئيسة، كالآتي:

النّدب

وهو بكاء الميت بالألفاظ الحزينة التي تذيب القلوب والعيون، يولول فيها الشاعر وينتحب ويسكب الدموع حزناً على ما فقد. وقد يتحوّل هذا النواح إلى مراسم ومآتم تدور مع الأعوم بذكرى سنويّة يقوم فيها الشاعر بإحياء خصال موتاه الذين فقدهم، فيبكيهم من جديد، ويندبهم، ويسكب لجلهم الدموع الكثيرة.

ضمّ النّدب أنواعاً متعددة، فندب الشاعر أهله وأقاربه، ونفسه، والرسول عليه السلام، والدول، والبلدان الضائعة. ومن شعراء الندب نذكر الخنساء في رثاء أخيها صخر، ومُتمّم بن نويرة، وأبو تمام، ومالك بن الرَّيب، وأبو نواس، وأبو البقاء الرُّندي، وشمس الدين الكوفي. (5)

التأبين

اشتمل معنى التأبين في بداية ظهوره كمصطلح بأنّه الثناء على الشّخص حيّاً أو ميّتاً، ثم اقتصر في معناه على الميت، حيث كان من المتعارف عليه في الجاهلية الوقوف على قبر الميت وذكر خصاله الجيّدة وأخلاقه الحميدة. ولم يقتصر التأبين على الرجال من الشعراء، بل قالت النساء في هذا الموضوع كما الرجال.

وفي دراسة هذا النوع من الرثاء نشعر بأن الغرض من التأبين هو تصوير مدى الخسارة التي لحقت بعائلة الفقيد بعد خسارته، ويظهر هذا الأمر واضحاً في رثاء الخنساء لأخيها صخر.

تعدّدت أسباب التأبين وبقي الهدف واحداً، فنظم الشعراء قصائد تأبين الخلفاء والوزراء، وتأبين الأشراف والقادة، وتأبين العلماء والأدباء. ومن أشهر الشعراء من نظموا الشعر في التأبين حسان بن ثابت، وأبو عامر بن شُهيد، والحسين بن مطير الأسدي، وأحمد شوقي، وغيرهم. (6)

العزاء

العزاء لغة يعني الصبر، لكن في الشعر اقتصر معناه على الصبر في كوارث الموت، وأن يرضى الفاقد بالقضاء والقدر. وقد بدأت جذور هذا النوع من الرثاء منذ العصر الجاهلي، حيث كان الشاعر يحزن على ما فقده، ويبكي على خسارته، ويُعبّر عن مشاعره بشعره المليء بمشاعر اللوعة والأسى.

نظم الشعراء جميل أبياتهم في عزاء الأهل من الآباء والأبناء، إلا أنّ العزاء في البنات كان شبه معدوم، وارتبط العزاء بالتّهنئة، كما ارتبط بالحديث عن الحياة والموت والخلود.

أشهر من نظم في هذا النوع من الرثاء هو المتنبي، وأبو العتاهية، وحافظ إبراهيم، والبحتري، وكشاجم، وغيرهم الكثير. (7)

شعر في الرثاء

من جميل قصائد شعر الرئاء العربي، نذكر منها ما يأتي:

لا تعذليه

ابن زريق البغدادي

لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ

قَد قَلتِ حَقاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُ

جاوَزتِ فِي نصحه حَداً أَضَرَّبِهِ

مِن حَيثَ قَدرتِ أَنَّ النصح يَنفَعُهُ

فَاستَعمِلِي الرِّفق فِي تَأِنِيبِهِ بَدَلاً

مِن عَذلِهِ فَهُوَ مُضنى القَلبِ مُوجعُهُ

قَد كانَ مُضطَلَعاً بِالخَطبِ يَحمِلُهُ

فَضُيَّقَت بِخُطُوبِ الدهرِ أَضلُعُهُ

يَكفِيهِ مِن لَوعَةِ التَشتِيتِ أَنَّ لَهُ

مِنَ النَوى كُلَّ يَومٍ ما يُروعُهُ

ما آبَ مِن سَفَرٍ إِلّا وَأَزعَجَهُ

رَأيُ إِلى سَفَرٍ بِالعَزمِ يَزمَعُهُ

كَأَنَّما هُوَ فِي حِلِّ وَمُرتحلٍ

مُوَكَّلٍ بِفَضاءِ اللَهِ يَذرَعُهُ

إِذا الزَمانَ أَراهُ في الرَحِيلِ غِنىً

وَلَو إِلى السَندّ أَضحى وَهُوَ يُزمَعُهُ

تأبى المطامعُ إلا أن تُجَشّمه

للرزق كداً وكم ممن يودعُهُ

وَما مُجاهَدَةُ الإِنسانِ تَوصِلُهُ

رزقَاً وَلادَعَةُ الإِنسانِ تَقطَعُهُ

قَد وَزَّع اللَهُ بَينَ الخَلقِ رزقَهُمُ

لَم يَخلُق اللَهُ مِن خَلقٍ يُضَيِّعُهُ

لَكِنَّهُم كُلِّفُوا حِرصاً فلَستَ تَرى

مُستَرزِقاً وَسِوى الغاياتِ تُقنُعُهُ

وَالحِرصُ في الرِزقِ وَالأَرزاقِ قَد قُسِمَت

بَغِيُ أَلّا إِنَّ بَغيَ المَرءِ يَصرَعُهُ

وَالدهرُ يُعطِي الفَتى مِن حَيثُ يَمنَعُه

إِرثاً وَيَمنَعُهُ مِن حَيثِ يُطمِعُهُ

اِستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً

بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ

وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي

صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ

وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً

وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ

لا أَكُذبُ اللَهَ ثوبُ الصَبرِ مُنخَرقٌ

عَنّي بِفُرقَتِهِ لَكِن أَرَقِّعُهُ

إِنّي أَوَسِّعُ عُذري فِي جَنايَتِهِ

بِالبينِ عِنهُ وَجُرمي لا يُوَسِّعُهُ

رُزِقتُ مُلكاً فَلَم أَحسِن سِياسَتَهُ

وَكُلُّ مَن لا يُسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُ

وَمَن غَدا لابِساً ثَوبَ النَعِيم بِلا

شَكرٍ عَلَيهِ فَإِنَّ اللَهَ يَنزَعُهُ

اِعتَضتُ مِن وَجهِ خِلّي بَعدَ فُرقَتِهِ

كَأساً أَجَرَّعُ مِنها ما أَجَرَّعُهُ

كَم قائِلٍ لِي ذُقتُ البَينَ قُلتُ لَهُ

الذَنبُ وَاللَهِ ذَنبي لَستُ أَدفَعُهُ

أَلا أَقمتَ فَكانَ الرُشدُ أَجمَعُهُ

لَو أَنَّنِي يَومَ بانَ الرُشدُ اتبَعُهُ

إِنّي لَأَقطَعُ أيّامِي وَأنفقُها

بِحَسرَةٍ مِنهُ فِي قَلبِي تُقَطِّعُهُ

بِمَن إِذا هَجَعَ النُوّامُ بِتُّ لَهُ

بِلَوعَةٍ مِنهُ لَيلى لَستُ أَهجَعُهُ

لا يَطمِئنُّ لِجَنبي مَضجَعُ وَكَذا

لا يَطمَئِنُّ لَهُ مُذ بِنتُ مَضجَعُهُ

ما كُنتُ أَحسَبُ أَنَّ الدهرَ يَفجَعُنِي

بِهِ وَلا أَنَّ بِي الأَيّامَ تَفجعُهُ

حَتّى جَرى البَينُ فِيما بَينَنا بِيَدٍ

عَسراءَ تَمنَعُنِي حَظّي وَتَمنَعُهُ

قَد كُنتُ مِن رَيبِ دهرِي جازِعاً فَرِقاً

فَلَم أَوقَّ الَّذي قَد كُنتُ أَجزَعُهُ

بِاللَهِ يا مَنزِلَ العَيشِ الَّذي دَرَست

آثارُهُ وَعَفَت مُذ بِنتُ أَربُعُهُ

هَل الزَمانُ مَعِيدُ فِيكَ لَذَّتُنا

أَم اللَيالِي الَّتي أَمضَتهُ تُرجِعُهُ

فِي ذِمَّةِ اللَهِ مِن أَصبَحَت مَنزلَهُ

وَجادَ غَيثٌ عَلى مَغناكَ يُمرِعُهُ

مَن عِندَهُ لِي عَهدُ لا يُضيّعُهُ

كَما لَهُ عَهدُ صِدقٍ لا أُضَيِّعُهُ

وَمَن يُصَدِّعُ قَلبي ذِكرَهُ وَإِذا

عَلى قَلبِهِ ذِكري يُصَدِّعُهُ

لَأَصبِرَنَّ على دهر لا يُمَتِّعُنِي

بِهِ وَلا بِيَ فِي حالٍ يُمَتِّعُهُ

عِلماً بِأَنَّ اِصطِباري مُعقِبُ فَرَجاً

فَأَضيَقُ الأَمرِ إِن فَكَّرتَ أَوسَعُهُ

عَسى اللَيالي الَّتي أَضنَت بِفُرقَتَنا

جِسمي سَتَجمَعُنِي يَوماً وَتَجمَعُهُ

وَإِن تُغِلُّ أَحَدَاً مِنّا مَنيَّتَهُ

فَما الَّذي بِقَضاءِ اللَهِ يَصنَعُهُ

بطيبةَ رسمٌ للرسولِ ومعهدُ

حسّان بن ثابت

بطيبةَ رسمٌ للرسولِ ومعهدُ

منيرٌ، وقد تعفو الرسومُ وتهمدُ

ولا تنمحي الآياتُ من دارِ حرمة ٍ

بها مِنْبَرُ الهادي الذي كانَ يَصْعَدُ

ووَاضِحُ آياتٍ، وَبَاقي مَعَالِمٍ،

وربعٌ لهُ فيهِ مصلى ً ومسجدُ

بها حجراتٌ كانَ ينزلُ وسطها

مِنَ الله نورٌ يُسْتَضَاءُ، وَيُوقَدُ

معالمُ لم تطمسْ على العهدِ آيها

أتَاهَا البِلَى ، فالآيُ منها تَجَدَّدُ

عرفتُ بها رسمَ الرسولِ وعهدهُ،

وَقَبْرَاً بِهِ وَارَاهُ في التُّرْبِ مُلْحِدُ

ظللتُ بها أبكي الرسولَ، فأسعدتْ

عُيون، وَمِثْلاها مِنَ الجَفْنِ تُسعدُ

تذكرُ آلاءَ الرسولِ، وما أرى

لهَا مُحصِياً نَفْسي، فنَفسي تبلَّدُ

مفجعة ٌ قدْ شفها فقدُ أحمدٍ،

فظلتْ لآلاء الرسولِ تعددُ

وَمَا بَلَغَتْ منْ كلّ أمْرٍ عَشِيرَهُ،

وَلكِنّ نَفسي بَعْضَ ما فيهِ تحمَدُ

أطالتْ وقوفاً تذرفُ العينُ جهدها

على طللِ القبرِ الذي فيهِ أحمدُ

فَبُورِكتَ، يا قبرَ الرّسولِ، وبورِكتْ

بِلاَدٌ ثَوَى فيهَا الرّشِيدُ المُسَدَّدُ

وبوركَ لحدٌ منكَ ضمنَ طيباً،

عليهِ بناءٌ من صفيحٍ، منضدُ

تهيلُ عليهِ التربَ أيدٍ وأعينٌ

عليهِ، وقدْ غارتْ بذلكَ أسعدُ

لقد غَيّبوا حِلْماً وعِلْماً وَرَحمة ً،

عشية َ علوهُ الثرى ، لا يوسدُ

وَرَاحُوا بحُزْنٍ ليس فيهِمْ نَبيُّهُمْ،

وَقَدْ وَهَنَتْ منهُمْ ظهورٌ، وأعضُدُ

يبكونَ من تبكي السمواتُ يومهُ،

ومن قدْ بكتهُ الأرضُ فالناس أكمدُ

وهلْ عدلتْ يوماً رزية ُ هالكٍ

رزية َ يومٍ ماتَ فيهِ محمدُ

تَقَطَّعَ فيهِ منزِلُ الوَحْيِ عَنهُمُ،

وَقَد كان ذا نورٍ، يَغورُ ويُنْجِدُ

يَدُلُّ على الرّحمنِ مَنْ يقتَدي بِهِ،

وَيُنْقِذُ مِنْ هَوْلِ الخَزَايَا ويُرْشِدُ

إمامٌ لهمْ يهديهمُ الحقَّ جاهداً،

معلمُ صدقٍ، إنْ يطيعوهُ يسعدوا

عَفُوٌّ عن الزّلاّتِ، يَقبلُ عُذْرَهمْ،

وإنْ يحسنوا، فاللهُ بالخيرِ أجودُ

وإنْ نابَ أمرٌ لم يقوموا بحمدهِ،

فَمِنْ عِنْدِهِ تَيْسِيرُ مَا يَتَشَدّدُ

فَبَيْنَا هُمُ في نِعْمَة ِ الله بيْنَهُمْ

دليلٌ به نَهْجُ الطّريقَة ِ يُقْصَدُ

عزيزٌ عليْهِ أنْ يَحِيدُوا عن الهُدَى

حَريصٌ على أن يَستقِيموا ويَهْتَدوا

عطوفٌ عليهمْ، لا يثني جناحهُ

إلى كَنَفٍ يَحْنو عليهم وَيَمْهِدُ

فَبَيْنَا هُمُ في ذلكَ النّورِ، إذْ غَدَا

إلى نُورِهِمْ سَهْمٌ من المَوْتِ مُقصِدُ

فأصبحَ محموداً إلى اللهِ راجعاً،

يبكيهِ جفنُ المرسلاتِ ويحمدُ

وأمستْ بِلادُ الحَرْم وَحشاً بقاعُها،

لِغَيْبَة ِ ما كانَتْ منَ الوَحْيِ تعهدُ

قِفاراً سِوَى مَعْمورَة ِ اللَّحْدِ ضَافَها

فَقِيدٌ، يُبَكّيهِ بَلاطٌ وغَرْقدُ

وَمَسْجِدُهُ، فالموحِشاتُ لِفَقْدِهِ،

خلاءٌ لهُ فيهِ مقامٌ ومقعدُ

وبالجمرة ِ الكبرى لهُ ثمّ أوحشتْ

دِيارٌ، وعَرْصَاتٌ، وَرَبْعٌ، وَموْلِدُ

فَبَكّي رَسولَ الله يا عَينُ عَبْرَة ً

ولا أعرفنكِ الدهرَ دمعكِ يجمدُ

ومالكِ لا تبكينَ ذا النعمة ِ التي

على الناسِ منها سابغٌ يتغمدُ

فَجُودي عَلَيْهِ بالدّموعِ وأعْوِلي

لفقدِ الذي لا مثلهُ الدهرِيوجدُ

وَمَا فَقَدَ الماضُونَ مِثْلَ مُحَمّدٍ،

ولا مثلهُ، حتى القيامة ِ، يفقدُ

أعفَّ وأوفى ذمة ً بعدَ ذمة ٍ،

وأقْرَبَ مِنْهُ نائِلاً، لا يُنَكَّدُ

وأبذلَ منهُ للطريفِ وتالدٍ،

إذا ضَنّ معطاءٌ بما كانَ يُتْلِدُ

وأكرمَ حياً في البيوتِ، إذا انتمى

وأكرمَ جداً أبطحياً يسودُ

وأمنعَ ذرواتٍ، وأثبتَ في العلى

دعائمَ عزٍّ شاهقاتٍ تشيدُ

وأثْبَتَ فَرْعاً في الفُرُوعِ وَمَنْبِتاً،

وَعُوداً غَداة َ المُزْنِ، فالعُودُ أغيَدُ

رَبَاهُ وَلِيداً، فَاسْتَتَمَّ تَمامَهُ

على أكْرَمِ الخيرَاتِ، رَبٌّ مُمجَّدُ

تَنَاهَتْ وَصَاة ُ المُسْلِمِينَ بِكَفّهِ،

فلا العلمُ محبوسٌ، ولا الرأيُ يفندُ

أقُولُ، ولا يُلْفَى لِقَوْلي عَائِبٌ

منَ الناسِ، إلا عازبُ العقلِ مبعدُ

وَلَيْسَ هَوَائي نازِعاً عَنْ ثَنائِهِ،

لَعَلّي بِهِ في جَنّة ِ الخُلْدِ أخْلُدُ

معَ المصطفى أرجو بذاكَ جوارهُ،

وفي نيلِ ذاك اليومِ أسعى وأجهدُ

رثاء الأندلس

أبو البقاء الرُّندي

لكل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ

فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسانُ

هي الأيامُ كما شاهدتها دُولٌ

مَن سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ

وهذه الدار لا تُبقي على أحد

ولا يدوم على حالٍ لها شان

يُمزق الدهر حتمًا كل سابغةٍ

إذا نبت مشْرفيّاتٌ وخُرصانُ

وينتضي كلّ سيف للفناء ولوْ كان

ابنَ ذي يزَن والغمدَ غُمدان

أين الملوك ذَوو التيجان من يمنٍ

وأين منهم أكاليلٌ وتيجانُ ؟

وأين ما شاده شدَّادُ في إرمٍ

وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ ؟

وأين ما حازه قارون من ذهب

وأين عادٌ وشدادٌ وقحطانُ ؟

أتى على الكُل أمر لا مَرد له

حتى قَضَوا فكأن القوم ما كانوا

وصار ما كان من مُلك ومن مَلِك

كما حكى عن خيال الطّيفِ وسْنانُ

دارَ الزّمانُ على (دارا) وقاتِلِه

وأمَّ كسرى فما آواه إيوانُ

كأنما الصَّعب لم يسْهُل له سببُ

يومًا ولا مَلكَ الدُنيا سُليمانُ

فجائعُ الدهر أنواعٌ مُنوَّعة

وللزمان مسرّاتٌ وأحزانُ

وللحوادث سُلوان يسهلها

وما لما حلّ بالإسلام سُلوانُ

دهى الجزيرة أمرٌ لا عزاءَ له

هوى له أُحدٌ وانهدْ ثهلانُ

أصابها العينُ في الإسلام فامتحنتْ

حتى خَلت منه أقطارٌ وبُلدانُ

فاسأل (بلنسيةً) ما شأنُ (مُرسيةً)

وأينَ (شاطبةٌ) أمْ أينَ (جَيَّانُ)

وأين (قُرطبة)ٌ دارُ العلوم فكم

من عالمٍ قد سما فيها له شانُ

وأين (حْمص)ُ وما تحويه من نزهٍ

ونهرهُا العَذبُ فياضٌ وملآنُ

قواعدٌ كنَّ أركانَ البلاد فما

عسى البقاءُ إذا لم تبقَ أركانُ

تبكي الحنيفيةَ البيضاءُ من أسفٍ

كما بكى لفراق الإلفِ هيمانُ

على ديار من الإسلام خالية

قد أقفرت ولها بالكفر عُمرانُ

حيث المساجد قد صارت كنائسَ ما

فيهنَّ إلا نواقيسٌ وصُلبانُ

حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ

حتى المنابرُ ترثي وهي عيدانُ

يا غافلاً وله في الدهرِ موعظةٌ

إن كنت في سِنَةٍ فالدهرُ يقظانُ

وماشيًا مرحًا يلهيه موطنهُ

أبعد حمصٍ تَغرُّ المرءَ أوطانُ ؟

تلك المصيبةُ أنستْ ما تقدمها

وما لها مع طولَ الدهرِ نسيانُ

يا راكبين عتاق الخيلِ ضامرةً

كأنها في مجال السبقِ عقبانُ

وحاملين سيُوفَ الهندِ مرهفةُ

كأنها في ظلام النقع نيرانُ

وراتعين وراء البحر في دعةٍ

لهم بأوطانهم عزٌّ وسلطانُ

أعندكم نبأ من أهل أندلسٍ

فقد سرى بحديثِ القومِ رُكبانُ ؟

كم يستغيث بنا المستضعفون وهم

قتلى وأسرى فما يهتز إنسان ؟

ماذا التقاُطع في الإسلام بينكمُ

وأنتمْ يا عبادَ الله إخوانُ ؟

ألا نفوسٌ أبياتٌ لها هممٌ

أما على الخيرِ أنصارٌ وأعوانُ

يا من لذلةِ قومٍ بعدَ عزِّهمُ

أحال حالهمْ جورُ وطُغيانُ

بالأمس كانوا ملوكًا في منازلهم

واليومَ هم في بلاد الكفرِّ عُبدانُ

فلو تراهم حيارى لا دليل لهمْ

عليهمُ من ثيابِ الذلِ ألوانُ

ولو رأيتَ بكاهُم عندَ بيعهمُ

لهالكَ الأمرُ واستهوتكَ أحزانُ

يا ربَّ أمّ وطفلٍ حيلَ بينهما

كما تفرقَ أرواحٌ وأبدانُ

وطفلةً مثل حسنِ الشمسِ إذ طلعت

كأنما هي ياقوتٌ ومرجانُ

يقودُها العلجُ للمكروه مكرهةً

والعينُ باكيةُ والقلبُ حيرانُ

لمثل هذا يذوب القلبُ من كمدٍ

إن كان في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ

المراجع

(1) لسان العرب لابن منظور، كتاب الراء، فصل(رثى)، دار المعارف، صفحة 149.

(2) المراثي الشعرية في عصر صدر الإسلام، مقبول علي بشير النعمة، دار صادر، 1997، صفحة 13

(3) معجم مقاييسُ اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارِس بن زكَرِيّا، الجُزْءُ الثاني، كتاب الرّاء، تحقيق وضبط: عبد السَّلام محمد هَارُون، طبعة اتحاد الكتاب العرب، 2003،

(4) بتصّرف عن كتاب شعر الرثاء العربي واستنهاض العزائم، عبد الرشيد عبد العزيز سالم، وكالة المطبوعات-الكويت، الطبعة الأولى، 1982، ص12-14

(5) الرثاء، د.شوقي ضيف، دار المعارف، الطبعة الرابعة، ص12-13، بتصرّف.

(6) الرثاء، د.شوقي ضيف، دار المعارف، الطبعة الرابعة، ص54-55، بتصرّف

(7) الرثاء، د.شوقي ضيف، دار المعارف، الطبعة الرابعة، ص86-88، بتصرّف

المقالات المتعلقة بالرثاء